أجلس بغرفتي ليلا و قد خلوت إلى نفسي، و دلفت إلى عالمي الصغير، معلنة بداية محاكمتي اليومية، بتلك المحكمة التي ليس بها سواي، أنا وحدي، لأكون بها قاضيا و متهما، نعم، مازلت أعرّض نفسي بنهاية كل ليلة إلى تلك المسائلة التي تنتهي بكوني تارة بريئة و تارة مذنبة، تجلدني دائما أسواط الضمير، و أسئلته عما يجب و ما يصح، و لكن ماذا عن الأسئلة الأصعب؟ تلك الأسئلة التي تبدأ دائما ب " ماذا لو ؟؟
ماذا عن الفرص الضائعة، و كلمة " لو أن " التي قيلت مرارا و لم تغير من الأمر شيئا ؟ ماذا عما تمنينا أن نفعله و لم نفعل، و ما وددنا أن نبوح به و ظل قيد الكتمان أياما و أعوام ؟
أغمض عيناي و أعود بذاكرتي إلى يوم مازلت أذكره جيدا، ذلك اليوم الذي وضعت به رغبات الآخرين فوق رغباتي، و جعلت من أحلامهم قبرا لأحلامي، كان يجدر بدموعي أن تغرقني ذلك اليوم، بدلا من أن تغرق هي بمقلتاي المختنقة بها، تاركة بحلقي تلك الغصّة التي لم تفارقني منذ ذلك الوقت، كنت أعلم أن ثمة خسارة قد حلّت بي، و لكني لم أكن أعلم كم هي فادحة.
أكانت تلك مرّتي الأولى لأقف أمام شبح الندم وجها لوجه ؟ لا أظن، بل كان هناك مرّات سابقة و مرّات تلتها، و لكن كان هناك دائما صفة واحدة تجمعهم دون إستثناء، أن جميعهم كانوا قصصا تفتقر النهاية، أو ربما أجزاء من مسرحية هزلية لم تكتمل فصولها، لم أكن أعلم آنذاك، أكانت تلك الفصول حقا ناقصة ؟ أم كان يجدر بي أن أعدّها قد إكتملت بمجرد بداية الفصول التالية ؟ لا أدري
أسترجع كل ما مررت به، الصور التي أخذت تمر أمام عيني تباعا، و تلك اللحظات التي وددت بالزمن لو يتوقف بي و بهم، تلك التي كنت بها أضعف مما يجب، و أخرى كنت بها أقوى مما أظن، تلك التي تحدّثت بها حتى نفذت الكلمات، و أخرى تلعثمت بها و تعثّر لساني حتى لم يعد للحديث معنى، و لم يعد من الصمت المطبق مفر، تلك التي أصدرت بها أحكاما بإقصاء بعضهم خارج حدود مملكتي، و كانت بمثابة حكم بالإعدام لطالما أصدرته على نفسي، لحظات الرحيل حين رغبت في البقاء، و لحظات اللقاء التي تمنيت لو لم تكن، النظرات المُختَلَسة و المعاني المستترة، الأنفاس المتلاحقة و العَبَرات الحبيسة، الأصوات المضطربة و نبضات القلب الصاخبة، الضحكات الكاذبة و الأحاديث الخاوية، كل ما لم يُقَدّر له أن يكتمل، و ما إكتمل و لم يكن جدير بالإكتمال
كم من الأسئلة المحيّرة و الإجابات المُبهَمة ؟ كم من الأمور جاءت في غير موعدها ؟ و كم عادت، و لكن عودتها لم تكن لتغير من الأمر شيئا ؟ أَقَدَر هو نسير نحوه بخطى ثابتة مسيرين لا مخيرين ؟ أم هو مجرد سوء التصرّف بأمر إخترناه بمحض إرادتنا، و وجب علينا تحمّل عواقبه ؟ هل كان بإمكاننا أن نغير ما حل بنا في الماضي، أم الأمر كله ما هو إلا قطع لأحجية تكمل بعضها البعض لتجعل منّا ما نحن عليه الآن ؟ مَن الجدير بالندم، و من المَدين بالإعتذار ؟ لا أعلم، و لكن ما أعلمه جيدا، أنني و إن كان لي خطيئة وجب الندم عليها، فخطيئتي هي تلك الفرص الضائعة و سوء تقدير الخسارات فيها، و إن كنت مدينة بالإعتذار، فإعتذاري لنفسي، لا لأحد.