أعلم أنني قد أطلت الغياب، أشهر قد مضت منذ آخر رسالة كتبتها إليك، أعلم أيضا أنني قد وعدتك بأن أخبرك بما يحدث معي، و لم أفعل، لا أدري إن كان ذلك لأنني لم أجد ما يستحق أن أقصه عليك، أم أنني وجدت، و لكني لم أرغب في الحديث عنه.
رأيتك بالأمس و قد كنت في كامل بهاءك، و لكن ذات الغيمة الكثيفة كانت تحيط بك لتغتال نورك الذي أتوق لرؤية وهجه الأخاذ، و لكني لم أكن أعلم إن كانت تلك الغيمة التي تحول بيني و بينك كانت ماثلة فوقك حقا، أم أنها كانت مجرد إنعكاس لغيمة أخرى تكمن بداخلي أنا.
يحدث كثيرا أن تحكم غيمة ما قبضتها على أرواحنا، و لكن ليست غيمتنا كتلك التي بالسماء، فغيمتنا قد تأتي على هيئة أحداث و مواقف حياتية نشعر بها تهدد وهجنا و سلام أرواحنا، و أحيانا تتمثل في صورة أشخاص، يجعلوننا نبهت و نذبل كل يوم أكثر من ذي قبل، لنتبدل و نصبح أشخاصا آخرين غير ما نحن عليه.
بالأمس رأيتك و قد كنت تصارع غيمتك، فتنتصر تارة، و ينجلي نورك الأخاذ، و لكن ما تلبث أن تفعل، و تضئ ليلي المعتم، حتى تنهزم تارة أخرى، لتختفي و كأنك لم تكن، تستسلم حينا، ثم تقهر ظلامك حينا آخر، لتعود و تسطع كما لم تفعل من قبل.
يحدث كثيرا أن نضعف و ننكسر، نتألم و نستسلم لآلامنا، حتى نظن أن النهاية قادمة لا محالة، و أن دقات قلوبنا، و أنفاسنا الصادرة من صدورنا، هي ما يحول بيننا و بين أن نكون في تعداد الأموات، فلا فارق كبير بين الأمرين.
و لكن قد يجد المرء في لحظة ما، ما يجعله يتشبث و لو بفتات من الأمل، قد يتغلب على أوجاعه أحيانا، ثم يعود و يخفق من جديد، و لكن إن لم يستطع اليأس أن ينال من عزيمته، ليعود و يحاول التغلب على ما أصابه مرة أخرى، فقطعا ذات مرة سينهزم اليأس أمام الإصرار المستميت، ليجد المرء نفسه قد إنتصر بالفعل و علا فوق جروحه، دون أن يترك مجالا لأي إخفاق جديد، ثم يعود و ينظر بمرآته، ليكتشف أنه قد بدد غيمته، التي لولاها لما أصبح أقوى و أجمل، و أنه من دونها، لم يكن ليرى بعينيه تلك النظرة الواثقة التي إستعادها بعد أن كانت كسيرة و خاوية، لتعود عينيه و تلمع بإنتصارها، تماما كحالك عندما تتوهج ساطعا رغما عن ظلمة غيمتك.
نحن لا نختلف عنك كثيرا، و تقلب أحوالك ما هو إلا إنعكاس لتقلب أحوالنا، يطرأ علينا ما يطرأ عليك، تخفي الغيوم وهجنا، و لكن محال أن يدوم الظلام، فحتما سينقشع و يزول.
نحن نظن دائما أن الغيمة التي تصيب أرواحنا، لا تأتي إلا بالسوء، لكن بعد ذلك ندرك أن علينا أن نكون ممتنين إليها، لأن لولاها لما تذوقنا شهد الأمل بعد أن تجرعنا مرارة اليأس، و لما عرفنا كيف تكون الحياة بعد أن كادت أرواحنا أن تتقبل الموت.
أيها القمر، كلما نظرت إليك، إكتشفت عن نفسي حقيقة جديدة لم أكن قد إنتبهت لها من قبل، ألم أقل لك من قبل أنك مرآة لكل ما يجوب بداخلنا؟؟
سأعود لأكتب إليك عن قريب، و إن تأخرت، فلا تقلق،فلا شئ يحدث أكثر مما يصيبك من تغير الأحوال، التي تنتهي دائما بإكتمالك و بزوغ نورك في سماء الليالي المعتمة، كما سأكون أنا حتما، يوم أستطيع أن أنتصر، و أتغلب على غيمتي.