توجهت بالأمس إلى عملي و أنا شبه مستيقظة، أحاول جاهدة أن أتغلب على ذلك النعاس المسيطر على جفوني في إصرار، و في الطريق لم يكن يصاحبني سوى صوت هبة طوجي الذي كان يعلو أحيانا في محاولة بائسة لإيقاظي، تلك المحاولة التي ظلت دون جدوى، إلى أن أجبرتني على ذلك بمجرد أن بدأت تغني
" على المحطة لمحته اتطلع فيّ كتير.."
أعادتني هذه الكلمات إلى ثلاث أعوام مضت، عندما استمعت إلى هذه الأغنية لأول مرة عن طريق الصدفة، حين كنت أستقل قطار ينقلني من مدينة "ميلانو" بإيطاليا إلى مدينة "نابولي"، تعجبت آنذاك من تلك المصادفة الغريبة التي جعلتني أستمع إلى أغنية للمرة الأولى تقص حكاية فتاة
تستقل قطار في بلد غريب، ثم تلتقي بشخص يثير فضولها طوال الرحلة دون أن تعلم عنه أي شيء، و لمفاجأتي وجدته يمكث على بعد عدة مقاعد مني و كأنه قفز لتوّه من الأغنية إلى القطار.
مازلت أذكر ذلك الرجل الأربعيني ذو الشعر الرمادي و العينين الخضراوتين، و الذي كان يجلس برفقة صديق له يتجاذبان أطراف الحديث، و بيده سيجارته التي ما تلبث أن تنتهي حتى يشعل غيرها، أخذت أتأمل ذلك الرجل الذي بدا لي حينها كأبطال الروايات، ليس لبهاءه أو لمظاهر الترف التي كانت تبدو عليه، بل على العكس، ربما كان مظهره أبسط من العادي، و لم تكن ضحكاته التي أخذ يطلقها بين حين و آخر هي التي جعلتني أشعر أنه يعيش حياة سعيدة، و لكن نظراته و ملامح وجهه كانت تأكد لي في كل لحظة أن سعادة ذلك الرجل لم تكن قَدَر بل اختيار، إختيار من واجه الكثير من صعوبات الحياة، و لكنه أبى أن يسمح لها بهزيمته، و لم تأتِه على طبق من فضة، و لكنه اجتذبها من بين أنياب الألم و الإنكسار، و كأنه قرر أن ينأى بنفسه عن كل ذلك، و ألا يُضيع يوم من حياته دون أن يقضيه سعيدا.
ربما تكون قصته الحقيقية تختلف تماما عما دار بمخيلتي آنذاك، و لكنه هكذا ألهمني لكتابة قصتي التي إنتهيت منها بمجرد عودتي من الرحلة، و التي كان هو بطلها، أتذكر هذه القصة الآن، و أفكر أنني إن كان يتثنى لي أن أكتب لهذه القصة إهداء، لكان سيصبح " إلى الغريب الذي لم يكن يعلم أنه بينما كان في طريقه إلى نابولي، أصبح بطلا لقصة لن يقرأها أبدا"
إستوقفني هذا الإهداء، و الذي أثار بداخلي سؤالا لم يخطر ببالي من قبل، تُرى كم مرة كنا جزءا من قصة أحدهم دون أن ندري؟ قد ندرك أحيانا أننا ربما نكون في رواية آخرين الأفضل، أو الأسوأ، أربما لا شيء على الإطلاق، فكلٌ يحكي قصته من منظوره، و لكل شخص منظور يجعل القصة ذاتها تختلف دائما من حيث المحتوى و الأبطال، قد تلعب دور محوريّ في حياة البعض، و ثانوي في حياة
آخرين، و بين قصة و أخرى لن تكون ذات الشخص في كل الحكايات أبدا، و لكن ماذا لو لم تكن تعلم عن وجودك كأحد أطراف القصة، إن لم تكن بطلها منذ البداية؟
وصلت إلى عملي بعد أن نجح صوت هبة طوجي و أفكاري التي ظلت تتلاعب بي طوال الطريق أخيرا في إيقاظي، و لكني ظللت شاردة بين ما أعرفه، و ما بالكاد أعرفه، و ما لن أعرفه أبدا، ليس لشيء سوى أننا مهما تمكنّا من المعرفة، و مهما استحوذ علينا الفضول، لن يفلح في أحيان كثيرة، خصوصا بالحكايات
التي لم نعرف عن وجودها من الأساس، تماما كذلك الغريب في قصتي، فلكل حكاية كواليس، و علينا أن نستسلم لواقع أننا قد نعيش طوال حيواتنا و نحن نجهل كواليس الحكايا، حتى و إن كنا أحد أبطالها.