أجلس بغرفتي بعد أن يكون قد انتصف الليل، و
القمر أوشك على الإنسحاب عائدا أدراجه، مفسحا المجال لشمس يوم جديد، بينما أنا
أتقلب يمينا و يسارا في محاولة بائسة للنوم، و لكن عقلي يأبى، معلنا عصيانه، تاركا
إياي وجها لوجه أمام ذاكرتي، تماما كقائد جيش تمرد على حاكمه، فأهدى وطنه للعدو
على طبق من فضة، نعم قد تكون ذاكرتي هي عدوي الأول، إن لم تكن عدوي الأوحد.
الأحداث تمر أمام عيني تباعا، الصور تتلاحق،
أتوسل لتلك الأصوات العالقة بأذني أن تصمت، و لكن دون جدوى، فأنهض باحثة عن قلمي و
حفنة الأوراق التي أتعمد أن أتركها بالقرب مني دائما إستعدادا لهجمات الذاكرة
المفاجئة، أو ربما لمواجهة أي نوبة من نوبات الحنين.
أمسك بقلمي الذي ليس لي من منجٍ بهذه الأوقات
سواه، و لكني ما ألبث أن أمسك به حتى يصبح كأسير لتوّه قد حطم قيده، فيسترسل و
يسترسل، يصرخ و ينزف، ليلطّخ أوراقي البيضاء بحبره الأسود محملا إياها عبء كلماته،
و أنين مكتوم بين حروفه و طيات صفحاته.
عقلي تستنزفه الأفكار، صدري قد ضاق بأنفاسه،
و ما من سبيل لنجاتي سوى أن أكتب، و ها أنا أكتب :
" أتساءل دائما، كيف يؤذينا من الذكرى
الطيب منها و البغيض على حد السواء ؟ ألا يجدر بالذكرى السيئة وحدها أن تؤلمنا،
بينما تترك الذكرى الطيبة بدورها أثرها الطيب في نفوسنا ؟
و لكن الواقع أن كلاهما موجع، بل على العكس،
قد تؤلمنا الذكرى الطيبة حين نعي أن ما من طريق يعيدها إلينا، فكل السبل مغلقة، و كل
الفرص ضائعة، بينما قد نستطيع أن نجد تحت أنقاض الماضي البغيض، أشياء تجعلنا نبتسم
رغم الألم، فثمة أخطاء لا نندم على اقترافها، فلربما كانت سر سعادتنا بوقت لم نكن
ندرك بعد أنها أخطاء.
ترهق الذكرى أمثالي من البشر، أولئك اللذين
يتناسوا ولا ينسون، يتجاهلوا و هم للحقيقة مدركون، يتشبثوا ولا يفلتون، أعلم أنني
من خلقت لنفسي من الذكرى أشباحا، و لكن ربما يرجع ذلك إلى إدمان التفاصيل، تلك
التفاصيل التي تتسلل إلى قلبي فتسطونه، و تتمكن من عقلي فتستحوذ عليه، فلا أجد
نفسي سوى عاجزة، لا قوة لها ولا سلطان على صد ما يلحق بها من أذى إثر ذلك الإدمان.
أتأمل تلك الصور المتناثرة على جدران غرفتي،
من وضعها هكذا؟ لا أحد سواي، ظنا مني أن تلك هي الطريقة الأمثل لتخليد اللحظات
الفريدة و الأيام الأجمل بحياتي.
إعتدت أن أنظر إلى تلك الصور كلما دلفت إلى
غرفتي حتى أصبح يمكنني وصف كل ابتسامة، و كل لفتة بهذه الصور و أنا مغمضة العينين،
أنظر إليها و الزهو يملأني، كنت أظن نفسي محظوظة بهم، أما الآن، أصبحت أتحاشى
النظر إليها، أنام و قد ولّيت ظهري عنها، لا أعلم سخطا على أصحابها، أم سخطا على
نفسي، و إن إلتقت عيناي بها دون قصد، لا أملك سوى أن أبتسم تلك الإبتسامة الساخرة
على أيام تبدد كل ما فيها و لم يتبقَ منها سوى عدة صور.
أعيد النظر إلى أشيائي المبعثرة من حولي، فتصطدم
عيناي بأناني العطور الفارغة إلا من بضع قطرات متبقية، أحتفظ بها لأجد دائما ما
يحمل لي عبق الأيام كلما اشتقت إليها، أحتفظ بها خوفا من أن تندثر بالهواء كما
اندثرت ذكراها من قبل.
لا أعلم كيف تحتفظ أنفي بذاكرة للعطور على مر
الأعوام، تلتقطها و تميزها بين العشرات، لدرجة
أصبحت تمكنني من اعتبار العطور بمثابة بصمات لأصحابها، ما تلبث أن تلتقطها
أنفي حتى أرى أصحابها يتجسدون أمامي، و تسري بأوصالي رجفة عنيفة يرتعد لها جسدي
بأكمله، فأسير بعيدا بعيدا، لا أدري هربا من الذكرى، أم من نفسي، و خوفا من وقوعي
تحت سطوة الحنين.
يدفعني الفضول إلى تلك الأدراج المكدسة
بأشلاء الماضي، أفتحها لأجد الغبار قد كسى كل ما تحويه، و كأنه يأبى ألا يضعني
أمام الحقيقة التي لطالما حاولت تجاهُلها، حقيقة أن تلك الأيام قد انقضت، و لم يعد
متبقي منها سوى محتويات هذه الأدراج، من تذاكر للرحلات و القطارات، بعض التذكارات
البسيطة التي تكمن قيمتها في شعورك بأنك مررت ببال أحدهم أثناء الغياب و لو لحظات،
قطرات قليلة من العطور، و عدة صور.
لا أذكر أنني عدت بيوم من تلك الأيام
الفارقة، و لم أحتفظ بشئ يحمل ذكراه مهما كان يبدو بسيطا، حتى أصبحت هذه الأدراج
لا تحوي مجرد أوراق متناثرة فحسب، بل تحوي أياما و أعوام.
أعود و أعبث بهاتفي باحثة عن ثمة مقطوعة
موسيقية أو أغنية تساعدني على النوم، فلا أجد سوى صوتها الهادئ لينتشلني من ضجيج
أفكاري المزعجة، صوت السيدة فيروز، و لكن يأتيني صوتها مباغتا و هي تغرد قائلة:
صباح و مسا شي ما بينتسى
تركت الحب أخدت الأسى
و كأن كل ما حولي قد اجتمع على أن يفتك بي
دون شفقة ولا رحمة، حتى صوتها الحاني بدا لي قاسيا، تُرى ألأن للأصوات و الأغنيات
ذاكرة بالآذان أيضا، و الذاكرة لا ترحم ؟ لا أدري، و لكن ثمة أغنيات ترتبط لدينا
بالمواقف و الأشخاص، متى استمعنا إليها، و برفقة مَن، أي يوم كان ذلك، و ماذا كنا
نرتدي، حتى تصبح بمرور الوقت و كأنها موسيقى لفيلم، و ما ذلك الفيلم سوى حياتنا
بإيجاز، حياتنا التي لا تختلف كثيرا عن
الأفلام.
أعلم أن ذاكرتي هي اللعنة التي أصابتني،
مازلت أذكر الكلمات كلها، أحفظ التواريخ عن ظهر قلب، الصور تتضاعف، العطور تمتزج و
الأصوات تعلو أكثر و أكثر، أخشى يوم أجد الذكريات به قد ازدادت و تراكمت، و أجد
نفسي قد صنعت منها بيدي سجنا و قضبانا، سجنا ليس به سواي، أنا وحدي، فأكون به
سجينة و سجّانة.
أصبحت أحاول جاهدة ألا تأخذني البدايات، ألا
أصنع منها شيئا خاصا، ألا أنبهر، ألا أنتظر أو أتوقع، ألا أضع من أجلها عطرا خاصا،
أوألتقط الصور، و ألا أستمع لأغنية دون غيرها حتى لا تكون ذاكرتي حين أرغب في
النسيان.
و أما إن اقترب أحد من عالمي الخاص، فرجاءا قبل أن تقتربوا، ألا تكثروا من التفاصيل، إن لم تكونوا لها أوفياء، و لا تتحدثوا عن الأبدية، إن كان كل شئ سيبقى مؤقتا، و رفقا بالحواس،
فللحواس أيضا ذاكرة، و لكن ذاكرتها أعنف و أقسى "