Wednesday, 28 September 2016

و للحواس أيضا ذاكرة

أجلس بغرفتي بعد أن يكون قد انتصف الليل، و القمر أوشك على الإنسحاب عائدا أدراجه، مفسحا المجال لشمس يوم جديد، بينما أنا أتقلب يمينا و يسارا في محاولة بائسة للنوم، و لكن عقلي يأبى، معلنا عصيانه، تاركا إياي وجها لوجه أمام ذاكرتي، تماما كقائد جيش تمرد على حاكمه، فأهدى وطنه للعدو على طبق من فضة، نعم قد تكون ذاكرتي هي عدوي الأول، إن لم تكن عدوي الأوحد.

الأحداث تمر أمام عيني تباعا، الصور تتلاحق، أتوسل لتلك الأصوات العالقة بأذني أن تصمت، و لكن دون جدوى، فأنهض باحثة عن قلمي و حفنة الأوراق التي أتعمد أن أتركها بالقرب مني دائما إستعدادا لهجمات الذاكرة المفاجئة، أو ربما لمواجهة أي نوبة من نوبات الحنين.

أمسك بقلمي الذي ليس لي من منجٍ بهذه الأوقات سواه، و لكني ما ألبث أن أمسك به حتى يصبح كأسير لتوّه قد حطم قيده، فيسترسل و يسترسل، يصرخ و ينزف، ليلطّخ أوراقي البيضاء بحبره الأسود محملا إياها عبء كلماته، و أنين مكتوم بين حروفه و طيات صفحاته.

عقلي تستنزفه الأفكار، صدري قد ضاق بأنفاسه، و ما من سبيل لنجاتي سوى أن أكتب، و ها أنا أكتب :

" أتساءل دائما، كيف يؤذينا من الذكرى الطيب منها و البغيض على حد السواء ؟ ألا يجدر بالذكرى السيئة وحدها أن تؤلمنا، بينما تترك الذكرى الطيبة بدورها أثرها الطيب في نفوسنا ؟
و لكن الواقع أن كلاهما موجع، بل على العكس، قد تؤلمنا الذكرى الطيبة حين نعي أن ما من طريق يعيدها إلينا، فكل السبل مغلقة، و كل الفرص ضائعة، بينما قد نستطيع أن نجد تحت أنقاض الماضي البغيض، أشياء تجعلنا نبتسم رغم الألم، فثمة أخطاء لا نندم على اقترافها، فلربما كانت سر سعادتنا بوقت لم نكن ندرك بعد أنها أخطاء.

ترهق الذكرى أمثالي من البشر، أولئك اللذين يتناسوا ولا ينسون، يتجاهلوا و هم للحقيقة مدركون، يتشبثوا ولا يفلتون، أعلم أنني من خلقت لنفسي من الذكرى أشباحا، و لكن ربما يرجع ذلك إلى إدمان التفاصيل، تلك التفاصيل التي تتسلل إلى قلبي فتسطونه، و تتمكن من عقلي فتستحوذ عليه، فلا أجد نفسي سوى عاجزة، لا قوة لها ولا سلطان على صد ما يلحق بها من أذى إثر ذلك الإدمان.

أتأمل تلك الصور المتناثرة على جدران غرفتي، من وضعها هكذا؟ لا أحد سواي، ظنا مني أن تلك هي الطريقة الأمثل لتخليد اللحظات الفريدة و الأيام الأجمل بحياتي.

إعتدت أن أنظر إلى تلك الصور كلما دلفت إلى غرفتي حتى أصبح يمكنني وصف كل ابتسامة، و كل لفتة بهذه الصور و أنا مغمضة العينين، أنظر إليها و الزهو يملأني، كنت أظن نفسي محظوظة بهم، أما الآن، أصبحت أتحاشى النظر إليها، أنام و قد ولّيت ظهري عنها، لا أعلم سخطا على أصحابها، أم سخطا على نفسي، و إن إلتقت عيناي بها دون قصد، لا أملك سوى أن أبتسم تلك الإبتسامة الساخرة على أيام تبدد كل ما فيها و لم يتبقَ منها سوى عدة  صور.

أعيد النظر إلى أشيائي المبعثرة من حولي، فتصطدم عيناي بأناني العطور الفارغة إلا من بضع قطرات متبقية، أحتفظ بها لأجد دائما ما يحمل لي عبق الأيام كلما اشتقت إليها، أحتفظ بها خوفا من أن تندثر بالهواء كما اندثرت ذكراها من قبل.

لا أعلم كيف تحتفظ أنفي بذاكرة للعطور على مر الأعوام، تلتقطها و تميزها بين العشرات، لدرجة  أصبحت تمكنني من اعتبار العطور بمثابة بصمات لأصحابها، ما تلبث أن تلتقطها أنفي حتى أرى أصحابها يتجسدون أمامي، و تسري بأوصالي رجفة عنيفة يرتعد لها جسدي بأكمله، فأسير بعيدا بعيدا، لا أدري هربا من الذكرى، أم من نفسي، و خوفا من وقوعي تحت سطوة الحنين.

يدفعني الفضول إلى تلك الأدراج المكدسة بأشلاء الماضي، أفتحها لأجد الغبار قد كسى كل ما تحويه، و كأنه يأبى ألا يضعني أمام الحقيقة التي لطالما حاولت تجاهُلها، حقيقة أن تلك الأيام قد انقضت، و لم يعد متبقي منها سوى محتويات هذه الأدراج، من تذاكر للرحلات و القطارات، بعض التذكارات البسيطة التي تكمن قيمتها في شعورك بأنك مررت ببال أحدهم أثناء الغياب و لو لحظات، قطرات قليلة من العطور، و عدة صور.

لا أذكر أنني عدت بيوم من تلك الأيام الفارقة، و لم أحتفظ بشئ يحمل ذكراه مهما كان يبدو بسيطا، حتى أصبحت هذه الأدراج لا تحوي مجرد أوراق متناثرة فحسب، بل تحوي أياما و أعوام.

أعود و أعبث بهاتفي باحثة عن ثمة مقطوعة موسيقية أو أغنية تساعدني على النوم، فلا أجد سوى صوتها الهادئ لينتشلني من ضجيج أفكاري المزعجة، صوت السيدة فيروز، و لكن يأتيني صوتها مباغتا و هي تغرد قائلة:

صباح و مسا شي ما بينتسى
تركت الحب أخدت الأسى 

و كأن كل ما حولي قد اجتمع على أن يفتك بي دون شفقة ولا رحمة، حتى صوتها الحاني بدا لي قاسيا، تُرى ألأن للأصوات و الأغنيات ذاكرة بالآذان أيضا، و الذاكرة لا ترحم ؟ لا أدري، و لكن ثمة أغنيات ترتبط لدينا بالمواقف و الأشخاص، متى استمعنا إليها، و برفقة مَن، أي يوم كان ذلك، و ماذا كنا نرتدي، حتى تصبح بمرور الوقت و كأنها موسيقى لفيلم، و ما ذلك الفيلم سوى حياتنا بإيجاز، حياتنا التي لا تختلف كثيرا  عن الأفلام.

أعلم أن ذاكرتي هي اللعنة التي أصابتني، مازلت أذكر الكلمات كلها، أحفظ التواريخ عن ظهر قلب، الصور تتضاعف، العطور تمتزج و الأصوات تعلو أكثر و أكثر، أخشى يوم أجد الذكريات به قد ازدادت و تراكمت، و أجد نفسي قد صنعت منها بيدي سجنا و قضبانا، سجنا ليس به سواي، أنا وحدي، فأكون به سجينة و سجّانة.

أصبحت أحاول جاهدة ألا تأخذني البدايات، ألا أصنع منها شيئا خاصا، ألا أنبهر، ألا أنتظر أو أتوقع، ألا أضع من أجلها عطرا خاصا، أوألتقط الصور، و ألا أستمع لأغنية دون غيرها حتى لا تكون ذاكرتي حين أرغب في النسيان.

 و أما إن اقترب أحد من عالمي الخاص، فرجاءا قبل أن تقتربوا، ألا تكثروا من التفاصيل، إن لم تكونوا لها أوفياء، و لا تتحدثوا عن الأبدية، إن كان كل شئ سيبقى مؤقتا، و رفقا بالحواس، فللحواس أيضا ذاكرة، و لكن ذاكرتها أعنف و أقسى "

Friday, 2 September 2016

بين عصر السرعة و عشق التفاصيل

 مفيش حد فينا يقدر يقول إننا مش في عصر السرعة, كل حاجة في حياتنا بقت بسرعة، التطور اللي احنا عايشينه خلى كل حاجة بقت سهلة و بسيطة، الدنيا بتجري و الوقت بيعدي هوا، الحب، و الجواز، و الصداقة، كل حاجة، بس السؤال هنا بقى، يا ترى إحنا مبسوطين؟ حاسين بالحياة اللي احنا عايشينها؟ مستطعمين بيها؟ ولا تايهين في الدنيا و دوشتها، و مش بنحس إلا و اليوم بيخلص، و الأسبوع بيمر، و السنين بتعدي

العلاقات بتبدأ بدردشة على الفيس بوك و تنتهي ببلوك، بنعزي و نبارك بلايك، و نعيّد على بعض ببرودكاست، نعمل جروب عشان نتفق على خروجة، و في الآخر أيام الأسبوع كلها ماتنفعش، و نتفق على إننا لازم نظبط حاجة قريب، و نشوف بعض على ،خير إنشاء الله، و حتى لو نجحت المحاولة و اتجمعنا، ساعات كتير نلاقي نفسنا بنقول كلام رتيب عشان نغطي بيه على غرابة القعدة، و ده طبعا في حالة إننا قاعدين بنتكلم يعني، مش ماسكين الموبايلات، و مش بنبص حتى لبعض، ساعتها بنبقى عايزين نسأل نفسنا: طالما القعدة كدة، إحنا نزلنا ليه ؟

ناس كتير أوي فعلا مش سعداء، بس بقوا بيداروا تعاستهم أو وحدتهم  من خلال العالم الإفتراضي ده، بس عشان نقنع الناس إننا مبسوطين، بس المهم إن كل ده يخلينا إحنا نصدق إننا مبسوطين

لكن جرب بقى في وسط قعدة من اللي كله ماسك فيها الموبايلات دي، و فكّر اللي قاعدين معاك بموقف قديم، ضحكة يوم ضحكتوها من قلبكوا، أو يوم حلو من بتوع زمان، مش حاتكمل الجملة إلا و تلاقي كل اللي معاك فاقوا مرة واحدة، و فضلوا يفتكروا حاجات بقالها سنين و سنين

فرحتك و إنت نازل تجيب شنطة المدرسة، الجومة اللي بريحة الفراولة، المسطرة اللي جواها مية و نجوم، الأقلام الملونة و فرحة أول مرة نكتب بالقلم الجاف، الطباشير الملون و الوقفة عالفصل

ليلة الرحلة اللي ماكنش بيجيلنا فيها نوم، كيس الحاجات الحلوة و السندوتشات، بطنك اللي توجعك من الضحك، و رجوع كل واحد بيته و صوته رايح من الغنى في الباص، الدرجات الوحشة في الإمتحانات، و المقالب اللي كنا بنعملها في بعض، حتى التزنيب اللي كان بيقلب بضحك

 شريط عمرو دياب، أيوة شريط، ماهو زمان ماكنش في " سي دي " ولا أغاني بتنزل على النت، أغاني عمرو اللي كنا بنستناها كل صيف لحاد ما بقت مرتبطة عندنا بمواقف، و ذكريات، و وشوش، عمرو دياب ده عمل تاريخ كل واحد من جيلنا، لحاد ما فعلا بقينا بنأرخ كل أحداث حياتنا و حواديتنا تبعا لأغانيه

الصيف كان ليه طعم تاني، اللمة عشان رايحين البحر، و المية اللي كنا مابنطلعش منهل غير بالخناق، السهر للفجر، و لعب الأفلام، و بنك الحظ، و الأونو

الفرحة بلبس العيد، و يوم الوقفة لما كان تليفون البيت يفضل مشغول عشان أمهاتنا بيعيّدوا على القرايب و الجيران، و تكبيرة الصلاة، لمة يوم الجمعة في بيت العيلة، و أول يوم في رمضان، بكار، و سلاحف النينجا، و بوجي و طمطم، المسلسلات الراقية بتاعة زمان، زيزينيا، و هوانم جاردن سيتي، و الضوء الشارد، دقة المسحراتي و طعم القطايف من إيد جدتك، عمك اللي علمك السواقة، و خالتك اللي كانت بتخليكي تحطي ماكياج من عندها

حاجات كتير أوي لو سبت نفسك تفتكرها، حاتلاقي نفسك مش عارف تبطل ضحك، و عينك عمالة تدمع، بس بتبقى مش عارف دي دموع من الضحك، ولا دموع على الأيام اللي راحت و مش راجعة

لو ركزت شوية حاتلاقي إن التفاصيل الصغيرة دي هي اللي كانت عاملة لحياتنا طعم، و حس، و روح، و إن حياتنا دلوقتي رغم كل الرفاهية اللي فيها بس خاوية و فاضية، زي بير المية في وسط الصحرا، تفتكره خير وفير، و في الآخر يطلع مسموم، قدامك، بس لا يبل الريق ولا يروي عطش، عيشة ناعمة تفتكرها ألماظ بيضوي، تقرب منها تلاقيها إزاز و فالصو

مش عارفة إيه العلاقة، بس تحس إن مع تطور الدنيا، الخير بيقل، و الروح بينقص منها حتة،تعالى شوف أيام جدودنا،يمكن ماكنش عندهم كل التسهيلات إللي عندنا دلوقتي، بس كانوا مبسوطين بجد، جرب كدة تقعد جنب جدك أو جدتك و تسمع حكاياتهم زمان، يمكن حاتحس قد إيه حياتهم كانت بسيطة بالمقارنة بحياتنا دلوقتي، بس كمان حاتشوف في عينيهم لمعة واضحة و حنين لأيام هما فعلا كانوا محظوظين بيها، ساعتها حاتحس بسحر غريب يخوّفك لا في يوم تبقى قدهم و في مكانهم، بس عينيك مطفية و مش لاقي حاجة تحكيها

مهما كانت الدنيا واخداك، و بعدت عن أهلك و صحابك القدام، لو سبت نفسك لذكرياتك، و رجعت تفتكر، حاتلاقي نفسك فاكر، فاكر كل حاجة، الأيام و التواريخ، كل حاجة محفورة، الأيام دي هي اللي خليتنا الأشخاص اللي إحنا عليها دلوقتي، و هي كمان اللي بتخلينا نستحمل الأيام الصعبة اللي إحنا عايشينها، و في وسط كل المشاكل و الهم اللي شايلينه، نفتكر و نضحك، نضحك كتير

ماتخليش الحياة الزاهية الملونة تسرق عمرك، و تنسيك إن الأيام دي ألوانها قشرة، مهما كانت أيامك صعبة، ضيف عليها من طعمك إنت، لو مالهاش طعم، إزرع فيها من روحك، و إعشق التفاصيل، إعشقها و حسّها بكل حاجة فيك و لحد آخر نفس، و إن مالقتلهاش تفاصيل، إخلقها إنت بإيديك، إخلقها عشان تعرف تعيش