أتأمل فنجان قهوتي المسائية، و قد جلست بشرفة
غرفتي أنظر إليك من جديد، و أنا واقعة تحت سطوة تلك الخيالات التي سيطرت على عقلي،
أرشف منها، ثم أرى طيف وجهه الباهت، يتراقص فوق صفتحها البنية لا أدري لماذا، تُرى
ألأنه يشبهها ؟ نعم، أعترف لك أنه يشبه قهوتي كثيرا، و لكنه يشبهها مرارة و
إدمانا، أنظر إليك و قد بلغت من الحيرة أوجها، متسائلة، لماذا عاد؟ ألم تكن تراه
كما تراني ؟ أكنت تراه ساهرا مثلي، أم غافيا، تاركني أناجيك، بينما هو على النوم
قد استحوذ ؟ أتُراه عاد مشتاقا إليّ؟ أم شوقا لمتعة مراوغتي و تعذيبي
كنت
أرى لمعة تضئ عينيه بنفاذ صبري، و شبح ابتسامة يلوح على وجهه، و كأنه يتلذذ
باحتراقي.
مازلت أذكر آخر لقاء جمعنا، حين عزم على أن
يختبر صبري قائلا: " ما كبريائك سوى قناع زائف، متى تستلمين يا مولاتي ؟
"
و
لكنني باغته بردّي قائلة: " تظن أن الأيام ستبقيني على حالي، مخطئٌ أنت، لم
تبق الأيام من نفسي القديمة سوى فتاتا و رماد، تقول أنني ملكتك، ثم تسألني
الإستسلام، ألا تعلم أن الكبرياء هو تاج الملكات، المرصع بلآلئ العزة و الشموخ؟
لا
أنكر عليك أن خلف جدران قلبي، سراديب مكدسة بالأسرار، لم يعد يملك مفاتيحها
سواي، و لكن ليس السبيل إلى قلبي أن تخلع عني عباءة الكبرياء، لا تطلب مني أن
أدنو بكبريائي إن كنت لن تسمو له، و لا تهدم قلعة قلبي المنيعة و تدلف إلى بساتينها
اليانعة إن كنت لن تعتني بزهورها، لا تقول أنني بين الزهور أجملهن، ثم تغتال
وريقاتي النضرة و تدهس بقاياها تحت قدميك، تاركا ما تبقى من عطري على أصابعك،
كقاتل لم تنجُ ثيابه من آثار جريمته، لا
تقترب من جدران روحي المتصدعة إن كنت لا تنوى ترميم شقوقها، لا تقف بعدستك المكبرة
فوق نقصي إن لم تكن لنقصاني مكملا، لا تتحدث إن كنت ستجلدني بأسواط كلماتك، و إن
كنت ستلقي على مسامعي معسول كلماتك، ثم تبقى قيد الأساطير، فارحل و كن للرحيل
مخلصا، لا تترك لي بكل مكان ذكرى إن كنت ستجعل من تلك الذكريات أشباحا، ولا تترك
آثار دفء بصماتك فوق كتفي إن كنت ستحرمني إياه و تترك لي بردا و أشواكا، لا
تشتهيني كاشتهاء الفاكهة المحرمة ثم تسأم اقترابي، ولا تعبر حدود مملكتي إن كنت
ستدخلها كعابر سبيل و لن تتخذها وطنا،
فإن كنت ترغب أن أكون ملكة على عرش قلبك فعليك أن تكون على شيم الملوك قدير"
بذلك
اليوم ظل واقفا أمامي، يحدق بي مشدوها، ثم غادر بعد أن تركته يواجه واقعا لم يكن
يوما بحسبانه، واقع أنني لم أعد أنا، و أنه بقلبي لم يعد هو، و أننا لم نعد على
سابق عهدنا، بل مجرد اثنان التقيا بنقطة، ثم أكمل كل منهما سيره بالإتجاه المعاكس،
ربما يجتمعان مرة أخرى، في زمن آخر, و ربما لا، و لكن الأكيد أن ذكرى لقاءهما ستظل
وخزا يؤلم روحيهما شوقا تارة و ندما تارة أخرى حتى آخر الدهر.
انتهيت من قهوتي، و غابت عني خيالات وجهه، و
لكني أخشي أن يطاردني بأحلامي، فأعود أصارع خيالاته و قسوة نزاعاتي، نزاع قلب حائر
و عقل صارم، و نزاع الحقيقة و التمني، و نزاع يأبى ألا يضعنا سوى بمفترق الطرق،
نزاعي الأبدي بيني و بينه.
No comments:
Post a Comment